يصدر أحمد الواصل كتابه الجديد" الخروج من المعبد: توليفات في أنثروبولوجيا الغناء العربي" عن دار العين للنشر ، القاهرة، 2013.
ويخص مجلة "جدلية" بمقدمة الكتاب.
مقدمة الكتاب:
زفير أبي الهول الطويل
1/
قالت فيروز أن أبا الهول صديقها أيْ: هما صديقا الصمت. اختارت أن تشدو بقربه على مسرح الصوت والضوء 1989. أنشدت له باسم القوة والعزم والأصالة "أهو دا اللي صار" التي كتبها يونس القاضي ولحنها سيد درويش.
وسبقتها وردة لترفع عقيرتها فزاعة ضد الخيانة والذل وتمجد الوفاء وتنذر بدائرة الزمان على أرواح وأذهان فقدت صلتها بعقل الكون وإعلامه وتعطلت أجهزتها الشعورية والسلوكية في " لعبة الأيام"(1961) لعلي مهدي ورياض السنباطي الذي منح ذهنه وروحه وعبقريته فرصة التثاقف مع روح وذهن وردة وأسمهان اللتان تعزز عندهما التواصل والتفاعل مع الإعلام الكوني حيث منحتاه فرصة اكتشاف عبقريته مجددا مع نهر الكون. لم يكن أبو الهول إلا حارس الخلود.
ولم تكن الحناجر إلا أصوات الوجود. إنهم فوق الطبيعة. أبعد من حدود اليابسة والماء. أعلى من فضاء السماوات.إنهم "أولئك الذين يُغْنون عالمنا الروحي(بالموسيقى، والأدب، والدين). أي العباقرة، والأنبياء والمستبصرون، أناس غير طبيعيين، مع العلم أن المجتمع البشري من غيرهم يفقد بشريته بالمعنى المعاصر للكلمة، ويتحول إلى جمع من البائسين روحياً، والعامهين أخلاقياً"(ميغولفسكي، 2009، 568).
إذن، فإن المبدعون والمبدعات. أهل النغم والأصوات، أهل الكلمة والأشعار. سلاحنا ضد البؤس والعمه! أبو الهول هو حارس المعبد الذي يرمز إلى الكون. الموسيقى صوت الكون. الحناجر هي رنين لأجرام هذا الكون. إنها الأنفاس على هذه اليابسة والماء.
ترفع يديها فيروز لئلا تقع السماء. هكذا قال سعيد عقل.
وردة في كل دفقة صوت صلاة طويلة هكذا أقول. ترتل الحياة تقولها بالجسد والروح. تقولها بالابتسام والحضور الطاغي .
لكل حنجرة طقوس. بعضها من فرح، وبعضها من حزن. وبعضها من شموخ وبعضها من انكسار.
"مَنْ مات قبل الطّقوس له جنةٌ،
ومن لم يمُتْ.
لا يموت.." .هكذا يقول قاسم حداد.
الحناجر إعلامنا إلى الكون. على مذبح الأسرار. إن لكل حنجرة مزمار وجناح. بعضها يحمل النذور وبعضها قرابين الحياة. يسعى إلى كل حنجرة قديسة رهبان مولعون بالصوت والنغم.
من يخرج من المعبد؟. يحمل التجربة نحو الأقاصي.
2/
لكل حقل ثقافي معبده وآلهته ومذبحه وقرابينه ونذوره ورهبانه ومؤمنيه وقديسيه ..
الإنسان هو حارث كل حقل وباذره ومستسقيه وفلاحه وحاصده وحارقه.
المعبد والبيت طبعا بأدوات وخامات صنعهما وهدهما كما هما صورة عن جسد وأعضاء الإنسان نفسه. كذلك هي الفنون والآداب امتداد لحواسه وطباعه وسلوكه ومشاعره وزمانه ومكانه. تكون الفنون والآداب والأفكار والعلوم والقيم والمبادئ معرفته وثقافته وحضارته.
تقيم له أبنية التفاعل والتواصل والتثاقف وتمكنه من أن يكون شاهدا وشهيدا على عصره.
لطالما كان السياسيون وشركاؤهم من سدنة المعابد ومروجي الأفكار ومرتزقة المصالح والاقتصاديون من صرافي العملة ومضاربي البورصة، وتجار المزروع والمصنوع، والسابح في البحر والمعلق في الهواء وسماسرة الحاجة وناهبي الحقوق-أقول هم قتلة وسفاحو وجلادو ومفجرو ومدمرو كل معرفة وثقافة وحضارة.
إذ لم يعد السياسيون أيضاً "من يتحكّمون في مصير العالم، بل خبراء الأمن، يتحول العالم كل يوم إلى منظومة أمنية مغلقة، ولم تعد هذه الانتماءات الثقافية والدينية والهووية في الحقيقة إلا مشكلة أمنية بحتة، على الخبراء أن يجدوا لها حلاً في استباق نشاط النوايا"هكذا يقول هيدغر(مهنانة، الأوان، 2012).
بمعلومة يمكن التدمير والتفجير.
بعملية يمكن القتل والسفح.
بالعملة يمكن الجلد والسحل.
وإنما بالفنون والآداب يمكن جعل المعبد بيتا ويكون الإله شاعراً، والإلهة مغنية والراهب ممثلاً، والمذبح ضميراً، والقربان حباً، والنذر شوقاً، والقديسة راقصة...
إذا كان البيت جسداً والمعبد كوناً(سيرنج, 1992, 410)، فإن الباب والنوافذ والنذور والقرابين حواساً وشعوراً وطباعاً وأعضاء والسلالم أرواحاً والمذبح قلباً.
وفي الغناء من الفنون الحنجرة تقول إنسانها. وفي السينما العين تقول إنسانها. وفي الشعر والفلسفة الكلمة تقول إنسانها أيضا. والكتابة عن الصوت والصورة والكلمة والنغم تقول إنسانها. كل كتابة هي نتاج معرفة وثقافة وعمران. من تاريخ الأدب وعلم التاريخ والآثار وعلم النفس والاجتماع وعلم الإنسان والعراقة. ومن عدة كل كتابة تتوسل المخاطرة والادعاء بالخيال والذاكرة والتجربة. ومن الانطباع نحو التذوق ومن النقد نحو التحليل ومن المعلومة نحو الاستنتاج ومن المحاولة نحو المشاركة. نحن لا ننفصل عن أجسادنا بالحواس والأفكار والقيم والمبادئ لا تنفصل عن الطباع والسلوك، ولا ننفصل عن الكون كأذهان وأرواح. إن كل ما في الكون مترابط بعضه مع بعض، فالكون كله نظام واحد منظومة واحدة (ميغوليفسكي, 2009, 563).
الذهن والروح أو العقل والنفس متصلان بفضاء العقل الكوني وحقل الإعلام الكوني مسؤول عن التواصل معنا. ومن البشر عباقرة ذوو المواهب الإبداعية وعلماء ذوو القدرات الاختراعية يستقون بالحواس كلها ما يرد إليهم من الإعلام الكوني "فالإحساس بالتواصل مع قوة الحانب الآخر من العالم تمتلك بمحتواها شيئاً متخيلاًَ" (ميغوليفسكي ,2009, 574). وليس يمتلك ذلك الخيال المجنح سوى من يتحكّم بتلك اللحظة الفارقة بين الذاكرة والنسيان.
إن الصوت في الكلام والحنجرة والنغم يولد خارج حدود الجسد ولا يتمكن من التقاطها إلا من لديه جهاز استقبال. تلك التي ندعوها بالموهبة ( ميغوليفسكي,2009, 574).
وما يعزّز من علاقتنا التفاعلية بالكون هي علاقتنا بأجرامه وأثرها في الأمزجة والطباع والسلوك والمشاعر، فلا أبلغ من صورة الشمس ونورها وحرارتها ولا يند عن البال الروح وتقمصاتها جسداً فجسداً. ثمة مغنيات قديسات وأخر آلهات, وثمة ملحنون هم رهبان وحزّانون وشمامسة، ومقرؤون ومؤذنون, وثمة شعراء هم حملة القرابين والنذور. إنهم الشاهد والشهيد في الحياة ورسل وعرافات الإعلام الكوني. "يمكن للفن والفردية أن يقودا الإنسان المعاصر إلى نوع من الحرية والخلاص من هذه العدمية الميتافيزيقية السلبية إلى عدمية نشيطة، وإيجابية، تقوم على استقلالية الشخصية، والحذر إزاء كل فكر شمولي يتصيد العقول.
الفن وحده يمكنه أن يبتكر عوالم متعددة، وإمكانات جديدة للواقع البائس، كما أنه ينمي فضيلة الضحك، ويفكك روح الجد التي تحاول الديانات أن تصطاد بها فريستها. وتستلب بها الحياة الإنسانية"(زنار، الأوان، 2012).
3/
بنيت مواد الكتاب من كتابات متنوعة بين مقال قصير وآخر مطول، بعضها احتفائي وتحليلي، ومنها تأبيني واستعادي، ومحاضرات، ودراسات، وبين تخطيط كتابة حرة، وبين مراجعات كتب. هذه الكتابات هي ما تخلقه "ألعاب الصوت" سواء من حنجرة أو كلمة أو آلة. كما تعبر عن حاجة الفرد والجماعة، وعن صورة السياسي في الثقافي، وأثر التاريخي في الجمالي، وصناعة ذوق مجتمعات.
من هذه الكتابات ومواضيعها عن حناجر وقضايا وملحنين وتجارب صنعت توليفات متشظية لكن تجمع تلك الكتابات بأشكالها ودوافعها وظروفها تتضمن ما يخص المنتصف الثاني من القرن العشرين، ومحاوره ومواضيعه، مثل الصوت الفردي، وصناعة الأغنية،وتجربة المثاقفة، وامتحان الثقافة السياسي، ودور الشاعر في غناء عصره..
الباب الأول:"المعابد الأربعة"
تدرس "مراكز الغناء العربي" في القاهرة وبغداد، وبيروت، والكويت خلال القرن العشرين.
الباب الثاني: "مذبح الأسرار"
يبحث تجربة "تبيئة الغناء" في نموذج الأخوين رحباني وفيروز، وفي مدن الخليج العربي كالكويت في نموذج أحمد باقر وشادي الخليج، والبحرين في نموذج سلمان زيمان وخالد الشيخ وعارف الزياني، والسعودية في نموذج طلال مداح وسراج عمر.
الباب الثالث:"مزامير وأجنحة"
ينتقي رحلة بين أصوات عدة. سعاد محمد وليلى مراد، وعبد الحليم حافظ، وعبد الله الرويشد وسناء الخراز.
الباب الرابع:"نذور الأسئلة"
يقف على قضايا البدايات والتثاقف والمرجعيات "بدايات الأغنية السعودية المجهولة"، و"عشاق بهية : بحثاً عن الأغنية السياسية"، و"الجاز بضاعة مستردة: تجربة زياد الرحباني"، وآباء وأمهات مروان خوري" .
الباب الخامس:"قرابين الحياة"
يعمد إلى رصد تجارب شعرية فاعلة في الصناعة الغنائية عند أحمد شوقي ومبارك الحديني وغازي القصيبي، وتجربة الغناء والموسيقي في أفلام المخرج يوسف شاهين.
الباب السادس:"رهبان ساهرون"
تستوقفه بعض تجارب ملحنين عند أحمد باقر من الكويت، ومن السعودية محمد شفيق وسامي إحسان.
الباب السابع:"قديستان وسماء واحدة"
يستقرئ هذا الباب / الختام نموذجين لحنجرتين تمثلان أول القرن وآخره. الأولى"أسمهان:القديسة التائهة"، والثانية"وردة :قديسة الغربة".
وما بين أهل المعبد الذين يعمرونه ويضجون به، وبين خروجهم منه صورة واحدة تحمل وجهيها لا تتناقض ولا تنكسر. صورة عن معجزات الحناجر المتصلة بالكون. التي هزأت بها إحدى الحناجر يوماً :
"واحنا في زمان يا روحي
ما فيهشي معجزات". هكذا قالت وردة.
أنهي كتابة هذا المدخل إلى الكتاب/المعبد، ولست إلا شاهداً أو شهيداً. تشتعل الحواس عند كل من يتلقى الفن . الصوت يجعله أذناً مرهفة. الوجد يجعله مقلة مبصرة. موقف الرعشة يجعله قلباً مجنّحاً.
ما يتبقّى في الذاكرة هو ما جعله أصابع كتبت هذا الكتاب/ المعبد.
ادخلوا المعبد لنقرأ! نستمع ونشعر، واخرجوا إذا لم تستجب حواسكم !
الرياض – الجمعة
13 أكتوبر 2012
مراجع:
الرموز في الفن، الأديان والحياة، فيليب سيرنج، ترجمة عبد الهادي عباس، دار دمشق، 1992.
صفحات من أوراقه الخاصة: مذكرات في الجغرافيا السياسية، إعداد وتقديم: عبد الحميد صالح حمدان، دار الغد الغربي، 1996.
أسرار الآلهة والديانات، أ.س. ميغوليفسكي، ترجمة: حسان مخائيل إسحق، منشورات علاء الدين، 2009، ط:4.
عن الفكر والعدمية وعصاب الأديان حوار مع إسماعيل مهنانة، حوار حميد زنار، موقع الأوان.